عرض مشاركة واحدة
قديم 07-23-2007, 01:03 PM   #83
سالم علي الجرو
شخصيات هامه
 
الصورة الرمزية سالم علي الجرو

افتراضي

ـ 26 ـ

في هينن

ذكرها الهمداني في كتابه [ صفة جزيرة العرب ] ، بأنها قرية كبيرة في أسفلها سوق وفي أعلاها حصن للحصين بن محمد التجيبي [ الكندي ] ، وساكنها بنو بدّا وبنو سهل من تجيب . إنها تبدو للناظر قرية لا تختلف كثيرا عن قرى حضرموت إما على سفح جبل أو فوق ربوة أو في مستوى الوادي ، غير أن قرية هينن ، وبالذّات الجزء الشرقي منها ، المسمّى: ( الحزم ) ، ينطق عن ماضي سحيق . كانت فيما مضى تقل سادات وعادات ، بادوا وبادت ، واليوم تقل مجموعة من الفلاحين منظّمين في لجان يرتبطون بمراكز القوى ، تؤرق مجموعة من الملاك يسمونهم: إقطاعيين.
مهنة التدريس ليست سهلة على من لديه حس آدمي مسئول ، لا من حيث إيصال المعلومة إلى ذهن الطالب بل لوظائف أخرى بالغة التعقيد ، وسهلة على مدرس ناجح يحب عمله . كل مدرس يجب أن يكون تربويا ، ملما بعلم النّفس ، فهو مؤتمن على تشكيل عجينة ، ومسئول عن نشأة طفل في المراحل الأولى من حياته حيث تتوقّف عليها سلامته وتكوين شخصيته في اتجاه حسن سيرته في حياته ، فكان وبعض زملاءه خاصة أولائك الذين تخرجوا من معهد التربية أو ممن اجتازوا دورات تدريبية طويلة ومكثفة في مجال التربية والتعليم من الذين يحبون عملهم ويحبون الطفل أيضا .
في القرى النّائية يأتون الأطفال إلى المدرسة من مسافات بعيدة في حرارة القيظ وبرد الشّتاء ، وعلى المحيى ترتسم المعاناة شيء بسبب الطبيعة القاسية وشيء بسبب إهمال الأهل .
عليه ـ كما درس ويرغب ـ أن يتعامل مع الًصغار في الصّفّ ويراعي الفوارق الفرديّة ، وعليه أن لا يكون القطب الإيجابي دائما وهم القطب السّلبي ، فتارة يدع الإيجابية في اتجاههم لتحفيز قدراتهم واكتشاف مواهبهم ، والأغلب أن يكون المدرس هو القطب الإيجابيّ لإيصال المعلومة . المهمّ في المسألة مشاركة الصّغار في الاستنباط ولو بالإشارة إلى الجزيء . وعليه أن يدرس حالة كلّ طفل على حدة ليبعده عنه همّ أو عقدة ، وهذا لن يتأتّى إلا بتعاون المنزل مع المدرسة ، وهذه إحدى المعضلات التي أرّقته مع قلّة من جنود الظل في هذا المضمار خلال سنوات التدريس ، ذلك أنه لم يستطع تحقيق ما كان في المخيلة. فالأهل تغلب على معظمهم الأمّية ، ولغياب الوسائل التعليمية دور في الإعاقة . يؤرّقه كثيرا السلوك المشين لبعض الطّلبة بسبب البيئة المحيطة بهم. من الذين يعارضون ـ وبقوة ـ القائلين بأن العصا تساعد على التّفهيم ، وإنما العقاب من أجل سلوك خارج عن الآداب أو للإهمال ، أما أن يضرب الطالب بالعصا من أجل أن يعي الدرس ، فتلك جريمة.
كان يضحك في حزن ، عندما يسمع أمّ تلعن ابنها أو أب يتّهم ابنه بما ليس فيه من شذوذ ، ذلك أنّه حفظ بيتين من الشعر ، فكانت له نبراسا .
الأمّ مدرسة إذا أعددتها= أعددت شعباً طيّب الأعراقِ
***
وينشأ ناشئ الفتيان منّا = على ما كان عوّده أبوهُ
كان يفتخر ويشعر بالغبطة للنجاح الذي يتحقق في مجال التعليم فقط ، فكلّما كانت نسبة النّجاح عالية كلّما زاد غبطة ، وينزعج من نتائج الجانب التربوي لأن الشركاء أخفقوا في مهمّتهم ، وبالذّات المنزل والشّارع:
متى يبلغ البيان يوم تمامه = إذا كنت تبنيه وغيرك يهدمُ
[ إنّ الثّقافة والتّواضع واللطافة تعدّ أعظم الصّفات التي يمتلكها معلّم موهوب لكي تسهل عليه تجربة التّعلّم الجميلة ] .
كيف يمكن لمجتهد أن يحقق برنامج عمله وهو أمام مضايقات؟ . كثيرة هي المضايقات والمنفرات ومن من؟ من لا يعرف دور المعلم في التنشئة ولا يعرف من هو الطفل الذي يجب أن يكون قياديا في المستقبل ، فاعتنقوا مبادئ غاب عنهم جوهرها ، فوظفوا البراءة في أعمال خسيسة ولوثوها بأساليب ومعان سوقية . لم نجد في روسيا والصين غير أطفال مبدعين والفكر والمبدأ واحد ، ولكن براءة أطفال البلاد الشقية استغلت من لدن أشرار فجروهم إلى الشر. في هذه الديار دبرت مكيدة لمدرس شريف ، ومن هذه الديار قرر المغادرة والعيش في المجر.
عانى ومن معه من الجادين ، المحبين لأعمالهم الأمرّين من عضو الرّقابة ، الذي يسميه: [ عضو الشقابة ] ، وهي باللهجة المحلية تعني: [ النحس ].
يعيّن من بين أعضاء التّدريس شخص يقوم بمهمّة الرّقابة ، ويسمّى عضو الرّقابة ويكون منتمي للحزب أو لمنظّمة [ أشيد ] ، الاحتياطي الأمين للحزب . هؤلاء الأعضاء أضرّوا بالتّعليم ، فأوّلا ليسوا مؤهّلين ، وثانيا: يركزون على أمور تافهة كأن يدّعي بأنّ المدرّس يستغرق طباشير كثيرة ، وإن ارتقى في الأداء ادّعى أن المدرس خلال شرح الدّروس لا يشير إلى مكتسبات الثّورة . احدهم رفع تقرير ضدّه جلّه كذب وافتراء ، ومن ضمن الإدّعاءات أنّه دخل الفصل بعد خس دقائق من قرع الجرس وأنه يسخر من أعضاء الرقابة بطريقة غير مباشرة ، لأنهم يعبرون عن الحزب وأنّه قام برحلة بمفرده إلى جهة غير معلومة وكلام هابط كثير.
إلى هذه القرية جاء الرجل العاقل [ عيضه ] ليخبره عن قرار الخطف له من قبل جهاز أمن الثورة وأقسم يمينا أنه رأى صورته في البطاقة الحمراء ، ولما أنه يطلع على أمور كهذه ويعرفه جيدا تدخل ، وتأجل الخطف وحكم الإعدام حتى يتم التأكد مما نسب إليه ، وهذا يتطلب نقله إلى قرية أخرى تسمى [ الفُرُطْ ] ، حيث كثافة مراقبي هذا الجهاز الممقوت . طلب منه عيضه كتمان السر حتى لا يتعرض لمكروه . في اليوم التالي وصل من قعوضة [ عمر ] على دراجة يطلبه . [ عمر ] ، عضو اللجنة الشعبية بقعوضة يطلب منه الحضور والمثول أمام اللجنة بناء على طلب من رئيس اللجنة ورئيس الحي ، لتنفيذ الحكم الصادر ضده قبل عام [ سجن وغرامة ] ، وبطريقة أو بأخرى ابتعدوا عنه لأنه تحت المجهر أي تحت رقابة وداخل في القفص ، والأمر يتوقف على ما سيقوله أو يفعله من الآن فصاعدا ليتأكد قول عيضه أو قول من كتبوا عنه كذبا وافتراء .
في اليوم الثالث جاء قرار النقل إلى قرية أخرى قريبة جدا من عاصمة المديرية حيث توجد إدارة جهاز أمن الثورة . انتقل طائعا يحذوه الأمل في نجاته أو هلاكه ، وكل ذلك يتوقف على أمانة المراقب . رغب في إفضاء السر إلى صديقه أحمد ولكن تعهده لعيضه جعله يمسك عن الكلام ، وله في أحمد أسوة ، فعندما سجن مع صديقهما محمد ، وشاب ثالث بحجة أنهم ذهبوا إلى وادي دوعن لغرض البلبة والعمل ضد الثورة ، وهم في الحقيقة ذهبوا لحضور حفل زواج هناك . أرسل في ناي وفي الزنزانة تحول أحمد إلى هاوِ فسمّع أعذب الألحان ، وبعد إطلاق سراحهم اشترى عودا ليتعلم العزف ، ولما صار هو في حال لا يحسد عليه قرر شراء عود ليتعلم العزف أيضا ، والفرق بينهما أن أحمد حفظ عوده في بيت والده ، وهو حمله على كتفه متنقلا بدراجته النارية القديمة من مكان إلى آخر . ليس مباليا بما يقال عنه ، فالأرض أرض الله والعود عوده وهو حرّ في كتفه يعلق عليه ما شاء إلا الممنوعات ، ولا أحد من هؤلاء سيدفع القسط الثقيل من قيمة الدراجة التي حجزوها ذات يوم .
استدعته لجنة هينن بخطاب رسمي للمثول أمامها للتحقيق معه حول معرفة قديمة برجل كان سائق حراثة زراعية يملكها أبوه في ايام العز ، وسألوه منذ متى تعرفه ، وأي حديث دار بينكما ، وهل تعرف فلانة ؟؟؟ .
انتهت السنة الدراسية بسلام إلا من اتهام بأنه زنديق يحمل عوده على كتفه والناي تحت الحزام . قرر التقرب من شرير في قريته لعل وعسى يصحو ضميره ، ومن جهة أخر تصالح مع القرية التي لا يحبها لكثرة الغيبة والنميمة والثرثرة البلهاء ، ولشعوره بالفرق بين طعم العذاب أو الموت وأنت بين عشيرتك وبين أن تكون بعيدا عنهم .
التوقيع :
  رد مع اقتباس