عرض مشاركة واحدة
قديم 07-26-2007, 04:04 PM   #84
سالم علي الجرو
شخصيات هامه
 
الصورة الرمزية سالم علي الجرو

افتراضي

27 -

بين العشيرة

وأعرض عن ذي المال حتى يقال لي = قـد أحدث هـذا نخـوة وتعظما
وما بي كبر عـن صديق ولا أخ = ولكنـه فعلـي إذ ا كنت معدمـا
لا احد يستطيع تحديد ملامح الصورة بدقة غير الذي يعاينها عن قرب ، وقليلون لا يدرون عن عذابات النفس في قرية يهتم أهلها بالنوافل ويتساهلون في الفروض . يكون الجدل حادا وساخنا حول ميت له سن من ذهب أو ملبس بذهب: هل انتزع الذهب أم دفن معه؟ ، وعلى من تقع تبعات حريقه بالنار يوم القيامة ، عليه أم على الذي ترك سنه يدفن معه؟ . ومن القضايا الأخرى ذات السجال والحوار الساخن مشاهدة التلفزيون حرام أم حلال ، ولكن البعض يقاطع البعض فتتقطع الصلة بالأرحام وبذوي القربى ولا من جدال هنا أو نقاش ، ويأكل الأخ بملعقة من ذهب وإلى جواره أخيه أو أخته أو ابنة عمه تقتات على الزكاة وعلى الصدقات ولا من سجال أو حوار أو نقد أو توجيه لوم. ليس هذا فحسب بل لو توجهت إلى منزل امرأة لتهب لها ما يعينها على نوائب الدهر تبتغي مرضاة الله لاتهمت بالفسوق. والأدهى والأمر أن تجد خطيب المسجد يبتلع أموال غيره ظلما وعدوانا ، ولا من نقاش. أما أن تجد مصليا جدد وضوءه وطهارته بعد مصافحة المرأة فذاك أمرا محببا بل واجبا غير أن أحد لا يجادل من كان يصلي وهو ينظر إلى عجز امرأة تسير في الطريق . العذاب جاء من محاولة فهم أشكال وألوان الإستعمار حتى لا تتصاعد أنات القلب الدامي فيحدث النزيف القاتل ، فلا أحد يعنيه فهم ذلك غير الغارقين في هكذا جدال وهكذا شكوك.......
إنتقل إلى مدرسة لا تبعد كثيرا عن قريته ، وسكن مع ذريته في أحد البيوت المؤممة ، ابنته في الثالثة من عمرها والابن في الشهر العاشر ، ولا يملك من الأثاث غير بساط بالي وكان لا يبالي بما يقال عنه وعن فقره وعوده والناي الذي أزعج به الآخرين دون أن يدري ، لكنه حزين لعدم مقدرته على شراء علبة حليب [ نيدو ] لطفله الكثير البكاء ، والذي ملّ الماء المحلّى بالسكر . كان راتبه لا يغطي التزاماته بدفع قسط من قيمة الدراجة النارية ، وقسط آخر من قيمة العود العراقي ، أما النّاي فلحسن الحظ تنازل صاحبه عن القيمة ، وأختصه بعد ذلك بالتحية الحارة من بين الملأ . إنك لو أبصرته حينها لظننت أنه من كبار أغنياء القرية ، وذلك دأبه فكلما خلا جيبيه من الدرهم كلما ارتفعت الهامة . لم يجد بدّ من الذهاب إلى صاحب الحانوت الذي يطالبه بسداد ثمانية عشر شلن [ ثلاثة دولار ] دين عليه منذ أمد ، فجمع قواه ودخل عليه محطما الحواجز بتحيته المجلجلة وكأنه قادم من صالة أفراح ، وهو في واقع الأمر في حال لا يحسد عليه ، فطلب منه في توسل أن يكتب عليه ما يشاء وسيقوم بالسداد فور استلام الراتب ، فقط ، يعطيه الآن علبة حليب فأبى متوعدا بأن يشكوه إلى ثالث إن لم يسدد ما عليه . عاد منكس الرأس إلى البيت حزينا تتساقط دموعه ، وكلما نظر إلى طفله والماء المحلى نظر إلى العود ومن سيشتريه منه في هذه القرية التي ترى في من يحمل العود أو يغني زندقة وسفاهة وانحطاط . شكا الحال إلى أحد الأقرباء وأبدا شهامة فتحرك على الفور نحو بيتهم وعاد بحليب يكفي لعشر وجبات مصرور في قطعة قماش بالية ، سرقه من علبة شقيقته . طار إلى البيت فرحا وكان اليوم ذاك بمثابة عيد . هذا وهو بجوار الأهل والعشيرة .
لا تعجب إذا ما لقيت حضرميا يأكل بملعقة من ذهب وإلى جواره شقيقه بالكاد يحصل على تمر يكفيه لعام ، على أن الأول لا يعرف الشوربة إلا في رمضان في حين الشوربة عند الشقيق الجار تعد وجبة رئيسة . ليس ذاك من كراهية أو بغضاء أو شح ، وإنما تعود إلى حسابات أخرى ، أهمها: أن لا تشجع الكسول على الخمول ، فهم في جهة أخرى يتصدقون على الغير ، يعطون بسخاء ويكرمون الضيف ، لكن موضوع الرحم عند الكثير مسألة فيها نظر.
خلال هذه المعاناة كان سالم يأتيه إلى البيت ويتوعده بإجراء ثوري إذا لم تحضر زوجته الاجتماعات أسوة بنساء القرية ، ويسأله بتبجح: [ هل زوجتك من الملائكة؟ ] ، أما صالح فكان يعترضه دائما ويسأله: أين كنت البارحة ؟ ومن ذاك الذي زارك بالأمس؟ ، ولماذا لا تتطوع وتعطي دروسا في محو الأمية ؟ . إنك لم تحضر المبادرة الجماهيرية ، لماذا؟ . ولسعيد مهمة أخرى يقوم بها في صمت ، وجميع هؤلاء يلتقون بعوض وعبد الله ، الأول في جهاز أمن الثورة والآخر عضو بارز في اللجان الشعبية ، والاثنان ، على اتصال دائم بعاصمة المديرية ، وبذلك تكون الحلقات مكتملة ومنه تحت المجهر مصيره على كف عفريت .
طلبه عبد الله ذات ليلة ليشرح كتيب يتحدث عن تاريخ الكفاح المسلح للجبهة القومية ، في اجتماع العمال والفلاحين. في اليوم التالي طلبوه في عاصمة المديرية وجرى التحقيق المضني . لقد أخبرهم عبد الله في تقريره المعتاد بأنه نسب مرحلة الكفاح المسلح إلى جبهة التحرير وليس إلى الجبهة القومية ، ولو صدق هذا فإن حكم الإعدام وارد لا محالة . دافع عن نفسه وتوسط له من يعرفه ، وكان عبد الله يعزز قوله بشهادة المجتمعين ، والمجتمعون لم يفقهوا شيئا مما قال وسيشهدون للقوي .
يجمعون نساء القرية الأميات ، المجهدات ، المتواضعات ليعطوهن دروسا في الاشتراكية العلمية وما هو الدور الذي يجب أن تلعبه في مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية . إنك لو اختبرت امرأة واحدة في نطق الجملة إياها لاستغرقت ساعات ولضحكت وبكيت .
ثلاثة يلزمك المشاركة فيها وإلا.........
الأولى: المبادرة الجماهيرية ، وتكون إما حملة لبناء مركز صحي أو مدرسة أو تعبيد طريق أو توسعة قناة تصريف مياه السيول .
الثانية: حضور الاجتماعات رجال ونساء .
الثالثة: حضور المهرجانات الاحتفالية والخطابية بعيد الثورة ، عيد الإستقلال ، عيد العمال ، ذكرى الحركة التصحيحية ، ذكرى الانتفاضة ، ذكرى ثورة 26 سبتمبر ، يوم النداء العالمي للعمال ، بمناسبة زيارة مسئول ....الخ . فإن كانت مبادرة جماهيرية فالرقابة مسلطة على ذوي اللبس النظيف ، وإن كان اجتماعا فالعين الحمراء تجاه الذين لا ينتمون إلى التنظيم السياسي ، وإن كان مهرجانا فالجرد عند الشاحنة التي ستقل المشارك من يركب الشاحنة ومن يرفض ، وحتى الشاحنات التي تنقل المشاركين من القرى تعود لأهالي يطأطئون رؤوسهم علامة الموافقة عند كل طلب لسياراتهم . إنه التسخير للإنسان والآلة بدون تشاور أو تفاوض . أمر وكفى!
كم حفظوا من شعارات وأناشيد أمليت على عباد الله وهم في الشاحنات في الطريق إلى موقع المهرجان ، منها:
يا سلام ثوري على جيش شعبي عندهم للخصم قطع النفـوس
يزرعون الأرض يحموا مكاسبها ويمسوا في المتارس حروس
وكثيرة الأناشيد التي يرددها المرغمون على الحضور.
هكذا يبدو في ساعات اليقظة خائفا من المجهول وإن كان يؤمن بالمقولة الحضرمية: [ لا تسرق ولا تخف ] إلا أن كيد وعيب وفجور الإنسان أكبر وأقوى تأثير ولو كان سهم واحد لاتقاه ولكنه ثانٍ وثالث ورابع . إن عيب وغدر وفجور الإنسان يمسخ كل جميل ويكدر صفو الحياة ويغتال البراءة .
إنه يتكلم بعفوية وتلقائية مدركا لتفاصيل ما يدور حوله ، بعيدا عن حسابات سوء الظن والشك إلا ما كان منه واضحا وجليا أو هناك علامات ودلائل تدعو إلى ذلك ، وليست قاعدة لديه التعامل بسوء الظن في كل ظرف وحال ، وإن للعفوية حسنات وفوائد ذلك أنه يقرأ أحيانا في عيون من يحادثهم من أولئك المهابين قليل من الاعتراف بحقه كخلق من مخلوقات الله ، كأن يبادر أحدهم أو ما شاء الله إلى مد اليد للمصافحة وينصتون إليه حتى يفرغ من كلامه . إلا أنه يخاف المجهول: [ حتى إذا رأى غير شيء ظنّه الرجلَ ] ولعل ذلك يعود أيضا إلى الترويع وقسوة هؤلاء في تعاملهم مع اللاتنظيمي ، أي اللاحزبي ، الذين قست قلوبهم على ملاك الأراضي ممن سموهم إقطاعيين وهانت عليهم رقاب آخرين ، ولم ووالده كان ميسور الحال يملك أرضا زراعية تقترب مساحتها من مساحة استراحة صغيرة في بلد نفطي ، استنزفته مالا وجهدا وزمنا . عمل في المزرعة في عطلة المدارس ولا فرق بينه وبين أجير آخر وكان من الذين يرددون الهتافات في مسيرات طلابية وراءها ثوار: [ لا إقطاعي بعد اليوم ، يا فلاح إرفع رأسك ] [ يا إقطاعي يا جبان هذه أرضي من زمان ] ، وكيف له أن ينسى ما رواه شهود عيان عن سحل لرجال أحياء تقطعت لحومهم وتناثرت .
كثيرة هي المكائد والوشايات التي ابتلي بها أبرياء ، فمنهم من قتل ومنهم من عذب وأذل ومنهم من اختفى من قبل زوّار الفجر ولم يعد له أثر فأدرج في عداد القتلى ، إحداها تلتك التي وقعت على زميله في التدريس [ نجيب ] ، فبعد الحصة الأخيرة غادر المدرسة في طريقه إلى قريته ، آمنا مطمئنا ، متخذا ذلك الطريق الترابي الذي يمر بين أشجار النخيل في سهل يفصل القرية الأثرية الواقعة على سفح جبل عن كثبان الرمال في الجهة الجنوبية حيث قريته . كمين خطط له أطراف من التنظيم الحاكم ليغتالوا شرفه وسمعته ، لأن نجيب لم يكن من ذات الشلّة ولأنه ذكيّا ويعتقد هؤلاء بأن له انتماء إلى حزب آخر بناء على تقارير شفهية يقولها أمّيون ، سندها أن نجيب يقابل أناس كثر ليسوا في الحزب ، وبأنه لا يحضر اجتماعات الفلاحين ، وبأن أخواله وإحدى عمّاته يعدون من الإقطاعيين ، وهؤلاء بالضرورة هم من أعداء الثورة .
جعلوا من طالب وسيما ـ اختاروه لمهمة قذرة ـ وسيلة لاغتيال الشرف وتحقيق مطلب دنيء هو حرق كرت نجيب ، فأوقفوا الطالب في طريق أستاذه ونفذ هذا البريء المسكين التعليمات بدقة وما أن اقترب نجيب حتى صرخ هذا المتدرب ، فأدركته النجدة من بين أشجار النخيل ، وكانت مهيأة للانقضاض على الأستاذ البريء مدفوعة بالكراهية والحقد فكبّلوه وأذلوه وأودعوه السجن وواصلوا إذلاله والتشهير به بحجة أنه رواد الطالب في نية منه لعمل الفاحشة . طعن نجيب في شرفه وحقق أولئك رغبتهم الدنيئة ، وكان الصدمة قوية على نجيب الذي راح يبحث عن فضاء يعيش فيه فالأرض ضاقت عليه بما رحبت فهاجر بعد انقضاء فترة الجبس إلى بلغاريا واختار على أرضها المقام وتزوج بها وأنجب متناسيا أهله ووطنه وناسه .
وقبل نجيب اختفى زميله في الدراسة ولم يعد له أثر.............
هؤلاء قست قلوبهم أكثر بين عشية وضحاها وعملوا على قاعدة: [ من لم يكن معنا فهو ضدنا ] ، فسعوا بعنف إلى تغيير جذري نال السلم الطبقي لمجتمع الأرياف فأثروا معيشيا واجتماعيا وثقافيا بعد انتزاع الملكية ، فهم لا يؤمنون بما درج عليه البشر من تعامل يقوم على الود واحترام الملكية الخاصة على أساس من الإعتراف بحق الآدمي بالسعي في أرض الله والتملك مع مراعاة النبل والفضائل والشفقة ، قاعدتهم في التعامل: [ العنف الثوري المنظم ] الذي جاء عنفا ووحشية ولكنه غير منظم ، وكانت وسيلة المؤلفة قلوبهم من الحزبيين أن يتقربوا زلفى إلى رؤسائهم بقرابين يكون الكذب فيها والخداع والوشايات الكيدية أهم وثيقة إدانة لرجل بريء . هؤلاء الثوار ازدروا وحقّروا من لا يتحزب معهم ويؤمن بالفكر الماركسي فمن ليس معهم فهو ضدهم. ومن سوء طالعه أنه ابتلي بشاب عين مدرسا ، خريج متوسطة عينه الحزب الأحمر عضو رقابة في هيئة التدريس المكونة من أربعة ثلاثة منهم مؤهلين في مجال التربية والتعليم والرابع خريج متوسطة عيّن عضو الرقابة الذي يكتب بليل مكلف بتنميط من حوله ، وفي خلوة كان يسرف كثيرا في تحرير الجمل المروعة التي تقود إلى نكبات وتتسبب في هلاك أبرياء يطمحون في الحياة كأي آدمي عاقل ، منها الاختطاف والاختفاء النهائي ، كجملة: [ قوى الثورة المضادة ] ، [ طابور خامس ] ، [ عدو الثورة ] ، وكلمة: [ مبلبلين ]. كان يؤمن بالثورة ، ولكنها الثورة التي تقف ضد الظلم والبغي وتقوم على العدالة وتطفح آدمية ، ويحترم الثوّار لكنهم الثوّار الذين يبّرون بالأهل وبالوطن.
***
منذ أمد كان يفكر في الهروب من بلاده التي أصبحت شقية ولكن عبر الطرق الرسمية والشرعية كأن يدعي رغبته في تأدية فريضة الحج أو أن يشكو من مرض عضال يقتضي علاجه خارج الديار ، واستغل شظية القنبلة التي لا تزال عالقة في الوجه بالقرب من عصب إلا أن التقرير الطبي استبعد خطورتها ورأى أن لا هناك داعي للسفر إلى الخارج ، فاستسلم وهو في هم وغم من أمره حتى جاءت الأحداث الدّامية في عاصمة الدّماء وقتل رئيس البلاد الذي نعتوه بالخيانة بعد أن حفظ الأطفال أراجيز وقصائد تشيد به وبثوريته ونزاهة نضاله .
التوقيع :
  رد مع اقتباس